الثلاثاء، 3 نوفمبر 2020

دوار القمر 
الحلقة 11
الفرحة كانت تملأ قلب أبو يوسف، سيخرج أبنه اليوم من السجن، الساعة الثانية عشر ظهرا.
أبو يوسف وعادل كانا أمام باب السجن ينتظران منذ الساعة التاسعة صباحاً، وحسب المثل القائل "الداخل إلى السجن مفقود، والخارج منه مولود." 
أم يوسف وأبنتيها حنان وفيروز، كن جميعهن يزين البيت لأن أهل عادل وأهل جورج عريس حنان،   كانوا مدعوين لاستقبال يوسف، ثم وجبة غذاء على شرفه...
وصل يوسف البيت، ورفض أن يقترب منه أي أحد، ولا حتى والدته، وقال أعذروني يجب أن استحم أولاً. منذ ثلاث سنوات وأنا أعيش مع النفايات البشرية...
كان يستحم ويقول: الحمد لله يا ربي على نعمة الحرية، ربي أعدك أن أغسل داخلي من الشوائب، كما أغسل ظاهري...وأعدك أن يكون حمامي هذا  تطهير شامل لي، وبداية حياة نقية، لا وجود فيها إلى نمر العيسى الحقير، ولا لأمثاله تجار السوء...خرج يوسف وركضت أمه عليه
حضنته ولم تعد تفلته وهي تقبله وتقبله ودموعها تسيل فرحاً مدراراُ... هذا هو  قلب الأم الذي تملأه المحبة والاشتياق إلى من كان يحترق قلبها لبعاده...
يوسف قبل  الجميع بحرارة، وقال: ثلاث سنوات مرت أفقدتني شهيتي للحياة...لكن الآن وجودكم بجانبي  سيعيد الابتسامة إلى قلبي...
وجبة غذاء فاخرة أعدتها أم يوسف، أكل أبنها من كل الأصناف وكأنه يعوض ما فاته خلال السنوات السوداء الأليمة...
كانوا يحتسون القهوة، سأل يوسف عادل هل حددتم موعداً للخطوبة، أو إنكم  قررتم الكليل مباشرة بدون خطوبة؟
قالت فيروز: جيد أخي إنك طرحت هذا الموضوع الآن، أنا كنت أنتظر فرصة لأفاتح الجميع بهذا الأمر...
حتى عادل لم أفاتحه بفكرتي بعد، ربما كنت أنتظر حتى تنضج الفكرة، والآن صار من الممكن البوح  بها بعد أن درستها  من جميع جوانبها وتشعباتها واقتنعت بصحتها.
قالت: تخرج عادل هذه السنة، وسيبدأ العمل بمشروعه الزراعي، الأرض كبيرة وبحاجة إلى  فلاحين وآليات زراعية، أقصد بأن الأرض تحتاج سنتين على الأقل حتى تبدأ بالإنتاج.
والأشجار التي ينوي عادل زراعتها تفاح وعنب وزيتون تحتاج ثلاث أو أربع سنوات حتى تبدأ بالعطاء، وبعدها سيأسس دار سكن مناسبة، تضم مكتباً لي، ومكتباً  له  حبيبي عادل.
الذي أريد أن أقوله باختصار ومن النهاية، دعونا نؤجل الزواج مدة ثلاث أو أربع سنوات، لأنني أفكر بالذهاب عند عمي كمال إلى أمريكا لأتابع دراستي في الحقوق الدولية، وأحقق حلمي بالحصول على شهادة الدكتوراه، التي تجعلني أقوى، وكلمتي مسموعة. بعدها أنا وعادل سوف نكون مستعدين لفتح بيت زوجية راقي، وله وزنه الاجتماعي المميز...
الجميع كانوا ينصتون ومتفاجئون بهذا الكلام الجديد، لأن الجميع كانوا يظنون بأن كليل فيروز وعادل سيتم قبل ذهاب عادل إلى أمريكا...
أحد لم يسأل، لم يناقش، لم يعترض، لم يستفسر. الجميع لاذوا بالصمت، هذا القرار أكبر من أي كلام ...
عادل أسعده هذا الامر، لأنه شعر بأن هذا هو القرار الصائب، وليس مناسباً أن يتزوج ويسكن عند أهله، الأفضل كما قالت فيروز...هي تتابع دراستها، وهو سيعيد الحياة إلى المزرعة بالأساليب المتطورة. حتى يصبح المشروع قادراً على العطاء المالي الكافي...
يوم الأحد بعد خروج يوسف من السجن، ذهبت العائلة جميعاً إلى القداس. في باحة الكنيسة، استغرب يوسف قلائل الذين هنأوه على خروجه من الحبس، وعودته إلى الحياة...
الآخرون كانوا يتجاهلونه وكأنهم لا يعرفونه ابداً.
أو كأنه انسان غريب عن أهالي دوار القمر غير مرحب بهم...
كان الألم يعتصر قلب الأم. وكذلك الأب يتوجع  ويعيش مجروح الفؤاد بصمت... لأن أهل البلدة يعاملون أبنه يوسف كمجرم، ويتحاشونه ويبتعدون عنه...
أمر كهذا كارثي بالنسبة للعائلة جميعها...أبو يوسف معروف من خيرة رجال الضيعة، أصبح الناس يتحاشونه... 
أخيراً، وصلت تأشيرة دخول يوسف لأمريكا وعليه مراجعة القنصلية الأمريكية في دمشق... حينها كانت الأمور طبيعية في سورية، قبيل أن تتحول بعد إلى ساحة حرب غير مفهومة... جميع سفارات العالم مفتوحة، والحياة تسير شبه طبيعية في سورية لولا جيوب التيارات السياسية المعارضة السلمية، وهذه غالباً ما تكون صحية للبلد.
 انتشر خبر قبول يوسف بأمريكا، والخبر الأهم طلب منه عمه، أن يتزوج، أو يخطب على الأقل من بنات الضيعة، قبل حضوره إلى أمريكا... 
صبايا لم يدخلن بيت أبو يوسف يوماً، لكن الآن بعدما سمعن بأن يوسف ينوي الخطوبة من بنات ضيعته قبل سفره، تغيرت سياسة الصبايا، وخاصة الراغبات بالهجرة إلى ذاك العالم اللامع... صارت الصبايا تتبرجن، وتتزين، وتتعطرن، وترتدين أجمل ثيابهن، ويأتين لزيارة بنات أبو يوسف. ويسايرن يوسف ويحادثنه... ولمَ لا، عريس متعلم، أبن عائلة كريمة، تناسين ماضيه وقلن:  لكل فارس كبوة، يوسف سيذهب لبلاد الذهب الأصفر...ومحظوظة هي التي سيختارها...
فيروز أرسل لها عمها قبولاً من إحدى الجامعات الأمريكية، وعلى ما أذكر من جامعة فلوريدا، وأخذت تهيأ ذاتها للسفر مع أخيها. 
الذي لم يكن في الحسبان، مرض  أبو يوسف بالشلل النصفي نتيجة القهر الذي  كان يحبسه في داخله...  
يوسف أدرك بأن اهله صاروا عاجزين  ويجب ألا يتركهم  بدون مقيم معهم، طلب من أخته فيروز السفر بمفردها، وهو سيبقى مع أهله معيلاً لهم، لأن حنان طالبة بكلية الصيدلة لا يجوز حرمانها من جامعتها لتمكث في البيت...
قرر يوسف البقاء في قريته دوار القمر، لكن المشكلة ما هو العمل الذي سيقوم فيه بالضيعة...وكيف سيتصالح مع الناس... 

كتب الحلقة: عبده داود
إلى اللقاء في الحلقة 12
الحلقات السابقة للراغبين تجدونها في مجموعة "رواياتي"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق