الثلاثاء، 23 مايو 2023

قصة ‏قصيرة ‏/ ‏انا ‏التي ‏أسقيه ‏بقلم ‏الشاعر د.حسين ‏بشيني ‏

بقلمي: د. حسين بشيني  
                                   *********************
                            قصة قصيرة 
                           ==========

                      أنا التي أسقيه...
                          
  في سكينة ليل صيفي ، تجلى البدر وهمت من اطرافه  على الآفاق أنوار كأنها رجع من الدراري المصقولة...
   أفواج من الساهرين تسعى إلى خارج الزقاق وجدرانه التي لا تزال تحفظ حر يوم قائظ تأمل ببعض النسيم الآتي من الشاطئ الممتد خلف التلة...
   على عتبة سكناها القديم بآخر الدرب جلست " منسية" الى ضوء الإنارة العامة الخافت تنشف لبدة صوف كي تصيرها غزلا تنسج منه ما يصلح للبيع ويدر بعض المال . بينما كان الأبناء يتلهون بجانبها فوق بساط مترهل ، كانت هي تلوك علكة سقطت من بين نواجد الصبر ، تستلذ طعمها المر ونكهة اللوبان...تناولت الشن المعلق بالباب وأخذت جرعة ماء ، ما ألذه من ماء بطعم القطران ! 
سافرت بها الذكرى إلى ماض غير بعيد .استحضرت مشهد زوجها وهو كومة متفحمة لما انتحر حرقا تحت وزر القهر والعجز عن صد أحد الظالمين من أصحاب الجاه حين استأجر من الصعاليك والطماعين نفرا ليفتك ارضه ويطرده و اسرته خائبا مهزوما ، فانتحر...
لحظت ابنتها ذات العشر سنوات عبرات تجتاح خد امها" منسية" ، مسحتها بطرف وشاحها الأزرق ؛ تبسمت أمها وناولتها نصف علكتها ؛ طابت نفس البنية وراق مزاجها ...استوعبت كل شيء ، راحت تدندن مقطعا من اغنية تراثية وترددها : " ليام عديتهم مرار وسبب مرضتي بالغبينة . خايف من لكدة العار وشماتة الناس فينا ..."
في تلك اللحظة مرت أمامهم أمرأة بلباس تقليدي عظيم الاناقة ،تتلألأ بمعصميها أسورة من المعدن الفاخر وتتدلى أقراط مرصعة من أذنيها ؛ أوقفت الكرسي المتحرك الذي كانت تدفعه وقد استلقى فيه رجل هزيل على ظهره ...طلبت من "منسية" بعض الماء البارد ، مدت هذه الأخيرة يدها للشن ثم تقدمت من السائلة وقالت :" أنا سأسقيه بنفسي طمعا في مزيد الأجر .  "
شرب الرجل حتى ارتوى فقالت " منسية" :" بالشفاء يا أخينا " أب ألف " ، فرج الله كربك..." استغربت مرافقته ان تدعو " منسية" زوجها بكنية لا يعرفها الا اهل البادية التي كانوا يملكون تقريبا كل أراضيها ، حقولها وبساتينها والف شاة يقوم عليها عشرة رعاة...استفسرتها بكل لطف وألحت أن تخبرها . لم تجد " منسية " مفرا فردت على المرأة همسا " انا كنت منذ بعض السنين جارة لك يا " ريحانة" ؛ كيف ستتذكرينني وقد صرت من حال إلى حال ؟ او ليس إسمي منسية ؟ هل تذكرين زوجي المرحوم " غريب " ؟... تلقفت أذن الرجل أطراف الكلام ، في لحظة سمعتا له خوارا كخوار الثور المذبوح وإذا به قد اسلم الروح بلا حراك ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق