يناير بداية السنة الفلاحية
بقلم: الأستاذ بدرالدين ناجي
يقول الله تعالى:{ هُوَ الذّي جَعَلَ الشّمْسَ ضِيَاءً وَالقمَرَ نُورًا وقدّرَهُ مَنازِلَ لتَعلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسابَ. يونس:05}.
احتاج سكان شمال إفريقيا إلى وجود تقويم يضبط فصول السنة منذ الاف السنين وذلك لإرتباطهم بالفلاحة، و لاحظ الإنسان في الماضي القديم تعاقبَ الفصول في مواعيد ثابتة تتكرر باستمرار، ومع تكرار الدورة الطبيعية التي لا تحيد عن مدارها، وبدأ الإنسان في استعمال الحساب الشمسي والقمري الذي ساعده في تنظيم الأعمال الفلاحية بعد اكتشاف الزراعة، وابتكر مصطلحات لتقسيم الزمن، كاليوم والأسبوع والشهر والفصل والسنة، وخصّص لكلّ فصل عيدا يتوسّم فيه الخير في المستقبل. كما قام بوضع جدول للتغيرات المناخية على مدار السنة، يتمثل في وضع تقويم سنوي كامل نجد فيه الليالي البيض، الليالي السود، العزرة، قرة المعزة(العنزة)، الحسوم، اوسو،... وكثيرا ما يطلق على هذا التقويم السنة الفلاحية التي تبدأ بشهر يناير.
يناير أو ناير أو جانفي بحسب اختلاف اللهجات الأمازيغية والمغاربية في شمال افريقيا، فهو أحد الشهور الأمازيغية عند البربر.
يناير هو كلمة مركبة من: ين: وتعني واحد. و ير: وتعني الشهر الأول وبالأمازيغية يناير، وبالشاوية "إيخف أوسقاس" والمقصود بها كذلك أول شهر في الرزنامة الفلاحية للبربر الأمازيغ.
يتميز التقويم الفلاحي بتأخره عن السنة الميلادية بثلاثة عشرة يوما، حيث يوافق اليوم الأول من شهر “يناير” اليوم الثالث عشر من شهر جانفي وكذلك بقية الأشهر.
تتركب السنة الفلاحية من اثنا عشرة شهرا وهي على التوالي: يناير- فورار – مارس – ابرير – مايو – يونيو – يوليوز – غوشط – سكتمبر – كتوبر – ومبر – دجمبر.
تأتي ليلة رأس السنة الفلاحية بعد انقضاء 20 ليلة من الليالي البيض، التي تتسم بصفاء السماء ليلا وبنزول كميات كبيرة من الجليد والصقيع. و ليلة رأس العام او السنة الجديدة هي الليلة الأولى من الليالي السُّودْ التي تتسم بالظلام الدامس وعدم ظهور القمر نتيجة السحب المتراكمة في الغلاف الجوي.
و الليالي البيض هي الفترة التي تمتد على مدار 20 يوما وتبدأ من 25 ديسمبر وتنتهي في 13 جانفي، وسميت بالليالي البيض لأنها قليلة الغيوم والسحب ومن أهم خصائصها المناخية أن البرودة تكون فيها شديدة في الليل مع نزول الصقيع و«الندوة» بينما هي دافئة نسبيا في النهار. اما الليالي السود فتبدأ يوم 1 يناير الموافق ل 13 جانفي وتستمر إلى غاية 2 فيفري بدخول العزرة .التي تبدأ يوم 3 فيفري الموافق لليوم الحادي والعشرون من يناير وتدوم احدى عشر يوما، يكون فيها الطقس متقلبا. و بنهاية العزرة ينتهي شهر “يناير” ويبدأ شهر فيفري “فورار” بيوم بارد يسمى “ڨرة العنز” و يوافق هذا اليوم 14 فيفري. ثم يأتي بعد ذلك نزول جمرة الهواء من 20 الى 26 فيفري يصبح فيها الهواء دافئا. خلال هذه الفترة من السنة تبدأ المزروعات في النمو بعد فترة سبات خلال "الليالي البيض" وتبرز ورودها مواصلة نموها بقية فصل الشتاء. و كان الفلاحون يتفائلون بها و يرددون هذه العبارة" الليالي السود يخضار فيها كل عود" و تبدأ في هذه الفترة الزمنية المزروعات في النمو وتتغير اشكالها و تبرز ازهارها حتى تكبر و يستبشر بها الفلاحون خيرا..
هناك قصص من الموروث الشعبي المتداول شفويا في شمال افريقيا حول الحساب الخاص بالسنة الفلاحية اشهرها قصة العجوز و العنزات و قصة غيلان و حسابه للموسم الفلاحي، و تحكي قصة العجوز و العنزات حسب المعتقدات البربرية أن هناك عجوزا مغرورة استهانت بقوى الطبيعة واغترت بنفسها، فصارت ترجع صمودها ضد قساوة برد الشتاء إلى قوتها، وخرجت مع عنزاتها للرعي رغم البرد، فغضب ينّاير أو ناير وطلب من فورار (شهر فيفري) أن يقرضه ليلة ونهارا حتى يعاقب العجوز المغرورة، قائلا له:" جيتك يا عمي فورار، سلفلي ليلة ونهار، نرمي لعجوز في النار. فكان له ذلك، تغير الجو فجأة واشتد البرد، فتجمدت العجوز وعنزاتها. ومازال سكان جرجرة وبعض سكان شمال افريقيا يعتبرون هذا اليوم يوم حيطة وحذر، ويفضلون عدم الخروج للرعي فيه خوفا من عاصفة مفاجئة. ويقال أن غيلان هو راعي أغنام كان يرعى بها في فصل الشتاء بربوع منطقة ڨمودة التونسية التي تتميز باعتدال طقسها وخصوبة تربتها. وهي منطقة بعيدة بها الكلأ والدفء، ولما أرادت زوجته أن يعود لها قيل أنها أنبتت أزهارا في مكان دافيء علما أنه فصل الشتاء، وبعثت تلك الأزهار المزروعة إلى زوجها غيلان ، فلما رأى تلك الأزهار، أعتقد أن الوقت مناسب للعودة بأغنامه، وفعلا صدقها وقفلا عائدا، وبينما هو في طريقه أدركته الثلوج والبرد الشديد، فهلك وهلكت أغنامه. وكان هلاك أغنامه سببا لوضع غيلان حسابا دقيقا ضبط فيه أيام كل فصل من فصول السنة بكل دقة.
يبدأ شهر “فورار” بيوم بارد يسمى“ڨرة العنزة” ويوافق هذا اليوم 14 فيفري.
أما قصة "العنزات" فتقول الأسطورة أن العنزات خرجت ترقص فرحا بخروج شهر يناير قائلة “ينار، نار على نار، لا تغرد فيه أطيار ولا جار يطل على جار”، فرد عليها يناير قائلا: “نتسلف نهار من فورار نخلي ڨرونك يلعبوا بيها الصغار في ساحة الدوار”. يأتي بعد ذلك نزول جمرة الهواء من 20 إلى 26 فيفري يصبح فيها الهواء دافئا ويتحسن الجو.
لقد ارتبط يناير بمعتقدات ضاربة في القدم فمثلا يعتقد الأمازيغ أن من يحتفل بيناير سيحظى بسنة سعيدة وناجحة، ويختلف شكل الإحتفال من منطقة إلى أخرى ومن قبيلة إلى أخرى. فقبيلة النمامشة وشرق الجزائر عموما يتمثل التقليد الأكثر شيوعا في الإحتفال في إراقة دم حيوان، ومن المفضل أن يكون ديكا ويحضر به طبق الكسكس الذي يجتمع حوله كل أفراد العائلة. كما تجري العادة في هذه المناسبة بوضع الحناء على أكف الأطفال الصغار معتبرين هذه الطقوس فال خير يقيهم من العين والحسد.
احتفال سكان منطقة الشريعة ولاية تبسة بيناير أو العام الفلاحي الجديد:
كان سكان منطقة تبسة والنمامشة عموما يستبشرون خيرا بحلول يناير أو " ليلة راس العام الجديد" حيث يحتفلون به بطقوس بسيطة، كان الكبار من الرجال ومن النسوة يحرصون على عدم تفويت الإحتفال بيناير أو (ناير) لأنّ في ذلك خروجا عن العادات والتقاليد المتوارثة عن الأسلاف. وليلة "راس العام" التي توافق 13 من يناير من كل عام تقوم فيه الأمهات والجدّات بتغيير المناصب ( الأثافي) وهي أحجار ثلاثة توضع على شكل رؤوس مثلث متساوي الأضلاع وعليها توضع القدور الطينية من طناجر وكساكس وطواجين وأواني منزلية وغلايات القهوة. وكل شيء يستوجب فيه الطبخ على نار الكانون أو الموقد يتم تغييره من مكانه الأول إلى مكان آخر والمسافة في ذلك ليست مهمة ـ المهم التغيير ـ وهذا تفاؤلا بالعام الفلاحي الجديد. ومن عادات الأطفال الصغار الذين كانوا يرعون الأغنام كما يقول الأستاذ العيفة جدي أنهم ينادون أغنامهم، فإذا تجاوبت لنداءاتهم بالثغاء، فهذا يعني أن العام الجديد سيكون عام خير وبركة على الزرع والضرع، وإن لم تفعل ـ لا قدّر الله ـ فذاك نذير شؤم لعام سيء. وكان الأطفال تستدرجون الأغنام ويلحون عليها حتى تستجيب بالثغاء لنداءاتهم المتكررة، ومتى حدث ذلك يهتزّون طربا لأن تباشير الخير بدأت ويهنيء الناس بعضهم بعضا نسوة ورجالا، كبارا وصغارا بأنّ العام سيكون مطير وأن الخير باذن الله سيكون كثيرا. ويقول كذلك الأستاذ العيفة جدي: نفرح ونمرح ونتفاءل بليلة "راس العام" ببساطة لا توصف .. نستبشر ونهنّئ بعضنا البعض بلا رقص أو تهريج.
يقول الأستاذ صالح غريبي: كان الأجداد والآباء يقطفون النباتات الخضراء ويرمونها فوق أسقف المنازل وتقوم النسوة بإعداد وجبة الكسكسي أو البركوكش بكل مكوناته الدسمة بلحم الدجاج العربي وذوقه الرائع الذي يزيد الطعام نكهة متميزة. ويحرص الكل على الأكل حتى الشبع من الطعام الموجود، وعدم الزيادة تيمنا ببركة العام الجديد ... كانت أياما تراهن على طقوس طيبة وتواصل متبادل وتضامن منقطع النظير.
ويقول الأستاذ جعفر جدي حول احتفال يناير: "الإحتفال يكون بعد مرور 20 يوما من الليالي البيض.. وقد كان جدّي الحاج بلقاسم رحمه الله شديد الحرص على هذه المواعيد الفلاحية والاحتفالية"...
يقول كذلك الشاعر عبد الوهاب جباري في أحد منشوراته:" كان الناس يجتمعون على طعام واحد _ ليلة راس العام _ تفاؤلا بقدوم عام ( صابه) مع القيام بإصلاح البيوت وإحماء التواجر والقدور وتجديد الأثافي ( المناصب) وترتيب العتبات. وقديما كانوا يعمدون إلى شابح خيمة الشيخ فيعلّمون عليه أول أيام العام بخيط النيرة ( بمثابة المؤشر ) يتدرج تنازليا كل يوم حتى يستدير العام ليعلموا حساب الأيام .... أيضا لا تخلو جلسات وسهرات راس العام الغيلاني من النوادر والزهديات الذوقية والدعاء والتضرع لله تعالى، وطبعا التعوذ من امتداد القحط وزحف الجراد وتكون ( الختمة ) بالدعاء وطلب الخير والبركة والصلاة على الرسول عليه الصلاة والسلام ويفترق الجميع على امل إستقبال عام يغاث فيه الناس.
ولهذا يحرص الكثير من سكان مدينة الشريعة عرب وشاوية على الإحتفال برأس السنة الفلاحية تيمنا بما سيأتي فيها من خير. فيقومون بتبادل الهدايا و الزيارات وأطباق المأكولات والحلويات لخلق جو من التلاحم والتراحم بينهم. فهذه العادة متأصلة فيهم منذ القدم وكان الأسلاف يلونها أهمية كبيرة، وكان الكثير من الرجال الكبار يسمون الحسابة لأنهم يعرفون أوقات التغيرات الجوية والفصول والتقويم السنوي. وبعيدا عن التأويلات الوثنية أو الشركية أو العنصرية سيبقى يناير هو تاريخ الخصوبة والنماء والخير وبداية السنة الفلاحية عند سكان شمال افريقيا.
- المناسبات الفلاحية في السنة الفلاحية:
حساب السنة الفلاحية مرتبط بمناسبات فلاحية متنوعة على مدار السنة وكل مناسبة لها ميزاتها وطقوسها الخاصة في ذلك اليوم أهمها:
- خروج الليالي البيض 13 جانفي
- دخول الليالي السود 14 جانفي
- انتهاء الليالي السود 2 فيفري
- العزارة 3 فيفري
- انتهاء العزارة 13 فيفري
- ڨرة العنز 14 فيفري
- نزول جمرة الهواء 20 فيفري
- نزول جمرة الماء 27 فيفري
- دخول الربيع 28 فيفري
- نزول جمرة التراب 6 مارس
- دخول الحسوم 10 مارس
- انتهاء الحسوم 17 مارس
- الاعتدال الربيعي 20 مارس
- دخول الصيف 30 ماي
- الرجوع الصيفي 21 جوان
- أول أوسو 25 جويلة
- بداية الخريف 30 اوت
- انتهاء أوسو 2 سبتمبر
- الإعتدال الخريفي 12 سبتمبر
- استواء الليل والنهار 27 سبتمبر
- دخول الشتاء 29 نوفمبر
- أول أيام الليالي البيض 25 ديسمبر
للمقال مراجع مختلفة.
بقلم: الأستاذ بدرالدين ناجي