/// قراءة في قصيدة ..
(( في بلادي )) ..
للأديب والشاعر السوري : مصطفى الحاج حسين .
بقلم المغربي : الدكتور العلمي الدريوش ..
هل يسخر منّا الشّعر ؟
قراءة في قصيدة " في بلادي"
للأديب ولشاعر السوري : مصطفى الحاج حسين .
هل يمكن للشعر أن يدهشنا ويمتعنا وهو يصوّر أوضاعا متفحِّمة ما ترك فيها الحريق شيئا لم يمتد إليه لهيبه؟.
قصيدة "في بلادي" للشاعر مصطفى الحاج حسين دليل على هذا السحر العجيب الذي يمتلكه الشعر . فنحن أمام قصيدة موجعة ومؤلمة بشكل لا يصدق، ولكنها في نفس الوقت قصيدة لها جمالها النابع من هذا الوجع نفسه . فهل يسخر منَّا الشعر حين يعبر عن قبحنا بجماله؟ أم أن في جمال الشعر عزاء لنا وقد فقدنا كل شيء؟ ألم تكن لفن المأساة أو التراجيديا عند اليونان وظيفة التطهير (الكاثارسيس) ، ومن حق الشعر الذي تَقْطُر المأساةُ بين سطوره أن يستعيد وظيفته؟
إنها أسئلة حادة بأبعاد فلسفية ووجودية عميقة حاصرتني وأنا أعيد قراءة قصيدة " في بلادي" لمصطفى الحاج.
انطلاقا من العنوان باعتباره عتبة مهمة تبادرت إلى ذهني قصيدة الشاعر صلاح عبد الصبور "الناس في بلادي" ، وهي قصيدة تتحدث عن عام الجوع الذي صهر الفقراء والبسطاء الذين لم تدركهم رحمة السماء .. وقلتُ ربما تأتي القصيدة على شاكلتها.. وما أن تقدمتُ في قراءة النص حتى اكتشفتُ عالما أشد هولا وقتامة، فقد رأيت بلدا كل ما فيه يحترق وكأننا أمام جحيم معمم لا يستثني شيئا.. وأصبح عام الجوع الذي صور صلاح عبد الصبور تداعياته على الناس عاما عاديا. إننا أمام نص مأساوي أصبحت كل المآسي التي كتبت سابقا محاكاة باهتة له.
يُصوّر الشاعر مصطفى الحاج حسين مشاهد فظيعة تحدث في بلده دون أن ينسى تحديد الزاوية الإنسانية التي سيقدم من خلالها ما ينقله. فقد اختار تصوير وضعية الفقراء في هذا الجحيم بالرغم من أن الجحيم لا يستثني أحدا .. وذلك راجع إلى كون الفقراء لا ناقة ولا جمل لهم في هذه الحرب التي تدور رحاها عليهم ، ولا يفهمون كل أسبابها وغاياتها . ولعل هذا ما يضاعف حجم المأساة.
لا مجال في هذه المحرقة الفظيعة للتوطئة والبحث عن نقطة ارتكاز لجلب انتباه القارئ، بل إن القصيدة تنقض على حواسنا بشكل سريع بمجرد ما يفتح أمامنا باب الوطن : " في بلادي" ، ولذلك تندفع الأفعال والجمل القصيرة وكأنها قذائف لا تتركنا نلتقط الأنفاس:
يحصد الفقراء غلال الدّم
وتقطف النساء سلال الدّمع
ويرضع الأطفال حليب الانفجارات.......
الأفعال هنا في معظمها أفعال مضارعة تصوّر ما يجري في الحاضر .. وكم كانت هذه الأفعال عميقة ومزدوجة الدلالة.. فاللغة هنا مُنَبَّرَةٌ ومحمَّلة بازدواجية المعنى، وهذا يجعلها لغة تصويرية ساخرة وماكرة. فلنلاحظ هذه الأفعال: (يحصد، تقطف، يرضع، تتزين ، يحمل ، ترسل..) . إنها أفعال تخلق أفق انتظار يوحي بموسم صيف يحمل المكافأة والبشائر والخير.. ولكن عندما نتأمل مفعولات هذه الأفعال نقف عند موسم غريب لا يشبه المواسم الاعتيادية.. هو موسم تحصد فيه سنابل الدّم وتقطف النساء فيه سلال الدّمع بدل الورد أو الفواكه..إن طبيعة الإسناد الدلالي تعمق الشرخ بين ما يرسمه كل فعل من أفق احتمالي وبين ما يولده المفعول من خرق وصعق للتوقع.
إنها الثورة التي تحولت مشهدا قبيحا مليئا بالسخرية. فالثورة التي يرجى منها تخليص الفقراء والمضطهدين من معاناتهم أتت لهم بغلال الدَّم وسلال الدموع وحليب الانفجارات .
لقد اختلَّ كل شيء في هذا البلد ! فالرجال الذين يفترض أن يحملوا على أكتافهم السنابل يحملون جثث الخراب .. والشمس التي تبعث الدفء والحياة صارت شمسا ترسل أشعة الموت والهلاك.. والجبال التي كانت مصدر خير وهواء نقي وتحضن أطيب وألطف الناس صارت جبالا تقف وتتحصن خلف المدافع لأن سلاح الموت الغادر اجتاح السهول والهضاب والجبال.. وأمام زحف كل آليات الموت القادم من الخارج في اتجاه الوطن وما فيه.. يفقد هذا الوطن كل شيء ويتحول فيه ما كان جميلا إلى جثث محترقة. كما أن الكل يتحمل نصيبا من الفاجعة.. ولهذا نلاحظ هيمنة أفعال تدل على الصيرورة في نهاية النص(صارت الأشجار/ صار النهار/غدا الندى/ صار السلام /عم/ تراكم). إنها صيرورة الثورة المزعومة التي حولت كيمياءها كل شيء فأصبحت الأشجار تورق جثثا، والنهار يطل على الفاجعة، وغدا الندى قطران السراب.. فكانت النتيجة حتمية ( جفّت خطواتنا وتحوّل نبضُنا يبَاساً ). هل هناك أقسى من هذا المآل؟!.
لم يكتف الشاعر بوصف المشهد الكبير بكل مافيه من هول وسواد.. بل حاول أن يضع أصابعه على مكمن الداء الذي يتمثل في تخوين المواطن لأخيه لمجرد اختلافه عنه .. وسيادة أخلاق قطاع الطرق على أخلاق الوطن بحيث صارت سكاكين ذبح الإخوة لبعضهم البعض سكاكين أجنبية.. ولا أحد يفر من محكمة الدم ما دامت تسكننا شريعة الغاب. هكذا تحولت الثورة إرهابا أسودا تتحكم في إدارة خيوطه أيدي أجنبية. يقول الشاعر:
في بلادي
ننصب فخا للقمر
نعلقه على عمود الحقد
ونسلخ عنه الضوء
في بلادي
يذبح الأخ أخاه
بتهمة الخيانة..
لقد تعمدت الوقوف أكثر عند المستوى الدلالي لأن الشاعر صاحب رسالة أراد إيصالها إلينا وهي ملتهبة.. فما تعرضت له بلاده كان مؤامرة كبرى، لكن للأسف شاركت في نسجها أيضا أياد داخلية كثيرة استوطنها الحقد والكراهية والتعصب والجشع ليجد فيها الأجنبي المتعدد الأيدي والوجوه فرصة لإحراق كل شيء في بلد كان جميلا وشامخا على مر العصور .
ويبدو واضحا أن الشاعر اختار معجما من الحياة اليومية بما فيه من بساطة وألفة لنقل رسالته. ولهذا كانت اللغة شفيفة وواضحة الدلالة، غير أن التمعن في المعجم يقودنا إلى إدراك عمق فني وجمالي خلف هذا الاختيار .. فمعظم ألفاظ النص مأخوذة من الطبيعة الخلابة لهذا البلد بموازاة معجم يرتبط بالفعل الإنساني. وكأننا أمام إنسان يُبَدِّد كل الجمال الطبيعي الذي وهبه له بلده.. لقد قتَلوا الوطن بكل ما فيه من جمال وعمَّت لغة السلاح كل فضاءاته، وأصبح الهواء نسيما من الدخان والحرائق . وهذا يدل على انسجام كبير بين دلالات النص ومعجمه.
والنص كما نلاحظ بالرغم من نبرة الخطابة التي ترتفع بين سطوره يتميز بتوظيف صور بلاغية ارتكزت أساسا على الاستعارات والمجاز .. ومعظم الاستعارات مكنية . وهذه الصور بعضها بسيط وبعضها مركب . فالصور البسيطة مثل : يحصد الفقراء غلال الدم / يرضع الأطفال حليب الانفجارات.. وهناك صور مركبة تقوم على النمو والامتداد لتتعالق داخل الصورة الكبرى صور بسيطة وجزئية. ومنها : (ننصب فخا للقمر نعلقه على عمود الحقد ونسلخ عنه الضوء). ومن أهم سمات الصورة في هذا النص أنها ذات أبعاد مادّية وحسّية لأن المأساة تمشي حيّة وتلتهم الناس، والفاجعة تطالع كل أحاسيسنا من سمع وبصر وشم وذوق ولمس. ولعل المتمعن في الصور سيجد أنها في مجموعها لم تهمل حاسة من حواسنا ، بل جعلتنا نرى المأساة ونشمها ونسمع دويها ونلمس نارها الحارقة. و من زاوية مغايرة ، يمكن أن نعثر في النص على ما أسميه " الصورة الرحم" التي هي روح النص وجوهره، ومنه تنبثق باقي الصور وتصبح تنويعات دلالية لا تشذ عن ذلك الجوهر. والصورة الرحم على ما يبدو لي هي قول الشاعر:
"في بلادي
صارت الأشجار تورق جثثا
وصار النهار يطل
على الفاجعة"
هذه الصورة هي النّواة والمركز الذي تدور في فلكه الصُّور الأخرى ( يحصد الفقراء غلال الدم/ تقطف النساء سلال الدمع/ يرضع الأطفال حليب الانفجارات/ننصب فخا للقمر/ نعلقه على عمود الحقد..). ويمكن أن نسمي هذه الصور الفرعية والتي هي تنويعات "صورا صدى" لأنها تردد أصداء (الصورة الرحم) وتوسع دائرتها وامتدادها.. وهذه الصور أيضا تخرج المعجمَ المألوفَ من بساطته إلى عالم يشعُّ بالدهشة والجمال. فقوة التركيب والتأليف في استنادها على الخيال المبدع تبعث في الكلمات دلالات جديدة تنبني على الخرق والانزياح. وبذلك تتميز الصور بالجدة والطراوة وتصبح صورا حية تنقل واقعا كل ما فيه يموت. وهذه أيضا إحدى مفارقات الفن العظيم: صور حية ومضيئة لواقع تسوده العتمة والموت!
وفي ظل الموت والخراب كان من الطبيعي أن يدير الشاعر ظهره لكل ما هو جاهز ومسبق . ولهذا انزاح إيقاع النص عن قيود العروض وتمرد على القافية والروي ، فجاء إيقاعا سريعا
أسهمت فيه الجمل القصيرة وأشكال من التكرار خاصة تكرار نفس الصيغة التركيبية كما في هذا المثال:
يحصد الفقراء غلال الدم // تقطف النساء سلال الدمع //
يرضع الأطفال حليب الانفجارات.
فنفس الخطاطة النحوية من فعل وفاعل ومفعول به ومضاف ومضاف إليه تتكرر ومعها تتكرر بعض الحروف كاللام والتاء ، وكذلك خطاطات صرفية (غلال/ سلال- الدم/ الدمع..). وهكذا بنى النص إيقاعه الداخلي السريع والمتموج اعتمادا على مكونات لغوية ترتبط أساسا بحس شاعري مرهف يجيد اختيار الألفاظ والتاليف بينها. وهذا يعني أن النص اختار إيقاعه الخاص خارج كل المحددات المسبقة.. ففي ظل هذا الدمار والخراب وتحت صوت المدافع والطائرات وأزيز الرصاص ودوي الانفجارات يصبح اللجوء إلى عناصر إيقاع القصيدة الموروث ضربا من العبث وخروجا عن روح النص.. والإيقاع الداخلي يساير بشكل تلقائي حركة الفكر وقوة الإحساس لأنه يتلون بهما. وقد نجح الشاعر إلى حد كبير في تقديم إيقاع شعري بديل ينسجم ويتكامل مع باقي مكونات النص وسماته.
وعلى العموم ، قصيدة " في بلادي" ما زالت تختزن إمكانات فنية وجمالية ودلالية كثيرة.. فهي من النصوص الشعرية الناضجة التي تبرهن على أن مشهدنا الشعري المعاصر الذي دب فيه كثير من الوهن والركاكة لا زال يشهد إشراقات تمثل استثناء. وهي من النصوص المعبرة عن واقع محترق وعن أوضاع غارقة في المأساوية .. وهي ليست رصدا وتصويرا لهذا الواقع فحسب ، بل إنها تشخص الوضع وتحدد مكامن الداء دون أن تتنازل عن جمال فن القول الشعري .
الدكتور العلمي الدريوش .
==================================
القصيدة :
* في بلادي ...*
شعر : مصطفى الحاج حسين .
في بلادي
يحصدُ الفقراءُ
غلالَ الدّمِ
وتقطفُ النّساءُ
سِلالَ الدّمعِ
ويرضعُ الأطفالُ
ُحليبَ الانفجاراتِ
وتتزيّنُ الفتياتُ
بالشّحوبِ والارتجافِ
ويحملُ الرّجالُ على أكتافِهِمْ
جثَّةَ الخرابِ
في بلادي
ترسلُ الشَّمسُ أشعَةَ الهلاكِ
وتتمترسُ الجبالُ
خلفَ المدافعِ
وتأوي العصافيرُ
إلى حجرِ النّارِ
في بلادي
ننصبُ فخاً للقمرِ
نعلّقُهُ على عَمودِ الحقدِ
ونسلخُ عنهُ الضّوءَ
في بلادي
يذبحُ الأخُ أخاهُ
بتهمةِ الخيانةِ
وتكونُ سكّينُهُ
يدَ الغريبِ
في بلادي
صارَتِ الأشجارُ تورِقُ جثثاً
وصارَ النّهارُ يُطِلُّ
على الفاجعةِ
وغدا النّدى
قطرانَ السّرابِ
في بلادي
تفحَّمَ الهواءُ
وصارَ السّلامُ
رماداً
وعمَّ الانهيارُ
وتراكمَ السّخطُ
في صدرِ الغمامِ
في بلادي
جفَّتْ خطواتُنا
وتحوَّلَ نبضُنا يباساً *.
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول