معاونة الباص
2023 .آب
كانت سميرة تستجلب الأجرة من الركاب، على متن حافلة والدها (الباص) في العاصمة، وهذا يحدث عندما يغيب معاون باص والدها... مما يجبر سميرة على الغياب عن محاضرات يجب حضورها في كلية الآداب، قسم اللغة الفرنسية...
ذلك اليوم بينما هي تجمع الأجرة، فوجئت بوجود الدكتور
استاذها في الجامعة راكباً في باص والدها، استغربت الأمر لأنها. الأجرة. تعرف بأن أستاذها يملك سيارة فخمة، كذلك الأستاذ استغرب كيف سميرة تعمل جابية على متن سيارة باص عمومي.
احتارت ما الذي ستقوله حتى تبرر غيابها عن محاضرات هذا الأستاذ الذي يشدد على الحضور الكامل في محاضراته، ويهدد بترسيب الذين يتغيبون، وبذلك اليوم كان عندها حصتان ضروريتان عند هذا الأستاذ.
تساءلت، ماذا ستقول له؟ وكيف تعتذر؟ وهل من المعقول أن تأخذ منه أجرة الركوب؟...طبعاً من المستحيل أن تقبل منه
وصلت عند أستاذها محتارة كيف تبدأ كلامها، فاجأها هو بالحديث وقال أهلاً سميرة كم أنا فخور بالصبايا العاملات. أنهن رمز الحضارة المعاصرة.
سألها : كم هي أجرة الركوب؟
قالت : مجاناً لأساتذة الجامعات.
قال : أنا الآن لست أستاذا جامعيا، أنا الآن مواطن عادي راكب حافلة عامة، ويجب أن أدفع ما يتوجب علي؟
قالت : محال، أن تدفع بدل ركوب في حافلتنا...
بعد أيام قليلة، كانت سميرة واقفة عند موقف الحافلات المعتاد.
تفاجأت بسيارة الدكتور استاذها تقف بجانبها، ناداها ملحا الركوب معه...
اقتربت من نافذة السيارة، تشكرت الأستاذ، واعتذرت قائلة لا، شكراً أستاذ لن أربكك، أنا متعودة ركوب الحافلات العامة.
قال الأستاذ: ألست ذاهبة إلى الجامعة؟
اركبي أنا مدين لك بتوصيلة وأريد أن أسددها...
ركبت سميرة بجانب الأستاذ وتكاد تذوب من الخجل، ماذا يقول عنها الناس، إذا رأوها راكبة مع شاب غريب، ومن أين سيعرفون بأن هذا الغريب هو أستاذها في الجامعة؟
وسيراني زملائي وزميلاتي في الجامعة، ما الذي سيقولونه عني... ألف تساؤل وتساؤل مر بذهنها وهي مكتئبة.
لاحظ الأستاذ أرتباك طالبته، فسألها عن دراستها وكيف تحصل على المحاضرات عندما تتغيب عن الجامعة؟
قالت عادة أستعير دفاتر زملائي، وأنسخ ما سجلوه. أحياناً أفهم كتاباتهم وأحيانا، أقول لا حول ولا قوة إلا بالله...
قال الأستاذ وهل الله يعينك عندما تقصرين بواجبك؟
اجابت سميرة عندما يغيب معاون أبي، يجب أن أحل محله، نحن فقراء، عندما (لا نعمل، لا نأكل)
لاحقا، كتب الأستاذ على السبورة باللغة الفرنسية جملة:
(عندما لا نعمل لا نأكل) وقال اكتبوا موضوعاً حول هذا# القول...وأخذ يتجول بين الطلبة. عندما وصل عند
سميرة أعطاها (نوته جامعية) وقال لها هذه محاضرات كل السنة بدلاً من استعارة دفاتر زملائك، مرة تفهمين، ومرة لا تفهمين...
احمرت سميرة خجلاً، وقالت شكرا جزيلاً، وكتبت بخط كبير هذا أكبر بكثير من أجرة الركوب بالحافلة العمومية...
ضحك الأستاذ، وحاول أن يخفي ضحكته أمام التلاميذ...
عندما فتحت سميرة الكتاب (النوتة) كان مكتوباً على صفحته الأولى بخطه وتوقيعه: (اهداء إلى معاونة الباص) وتحت الاهداء. (إذا لا ندرس، لا ننجح)،ونظر إليها نظرة حب اخترقت جدار قلبها...
من تلك اللحظة قررت سميرة أن تحصل على العلامات التامة في مقررات ذاك الأستاذ...لأنها اعتبرت تلك الجملة تحدياً لها، وعليها أن تثبت جدارتها...وغايتها حتى تلفت نظر الأستاذ الشاب العازب، الوسيم، و الثري...الذي يعتبر حلم جميع الصبايا... واعتبرته هي حلمها المستحيل...لكنه مجرد دخان أسعدها رغم إنه سراب مستحيل الحدوث...
قررت أن تبهر أستاذها، اجتهدت، درست، وسهرت الليالي، وتعبت... وأخيراً نالت علامات متفوقة، وكان تخرجها في الجامعة ملفتا... وانتهت الجامعة، وانتهت أحلام الحب... لا هو طلب عنوانها، وهي محال أن تتصل به...
في ذلك الصيف، ذهبت سميرة مع أهلها في رحلة إلى أحد المصايف الجميلة.
هناك، سمعت صوتاً يناديها يا معاونة الباص... يا معاونة الباص... استغربت، من يناديها بهذا الاسم غير أستاذها في الجامعة وسراً...
أصر الدكتور على دعوة سميرة وأهلها إلى منزله الصيفي لتناول وجبة الغذاء عندهم...
منزل يشبه القصر... وجبة الغذاء كانت تحت الشجر، بجانب البحيرة، مكان الشواء...(الباربيكيو) أصرت سميرة أن تقوم هي بالشواء وخدمة الطاولة.
لاحظت الأم اهتمام ابنها بطالبته، وهو عادة لا يهتم بالصبايا والزواج، هذا مما أفرح قلبها، وأخذت تراقب هذه الصبية...جمالها طبيعي بدون (مكياج)، كلامها اللطيف، روحها المرحة، ونعومتها...بالفعل صبية رائعة.
وتمنت أن تكون هذه الصبية من نصيب ابنها...
لكن عندما عرفت من ابنها بأن الصبية تعمل أحيانا معاونة باص،
جن جنون الأم ، وقالت لابنها غضبي الشديد عليك إن تواصلت معها مرة أخرى، هذه ليست من مستوى عائلتنا...معاونة باص...!!!
سميرة كانت تحادث ذاتها وهي واقفة أمام المرآة، وتقول يا مجنونة، يا معاونة الباص، عليك أن تجتذي جذور هذه العاطفة المستحيلة من قلبك ومن مخيلتك، عليك أن تحرقي هذا الحب الذي يملأ كيانك...هل تحبين رجلاً من عالم غير عالمك، الفرق بينكما كالفرق بين الثرى والثريا...
عادة الاستاذ يصلي في كنيسة في دمشق/ مقابل المستشفى (الفرنسي)، شاهد سميرة وعيناها غارقتان بالدموع راكعة امام تمثال العذراء تصلي بحرارة...ربت على كتفها، سألها ما بك يا سميرة؟
قالت بأن أمها الآن في غرفة العمليات يجرون لها عملة اجتثاث المرارة بعد أن عانت من آلامها الكثير......
ربما كانت دموع سميرة هي التي فتحت شرايين قلب الأستاذ... وربما هو أعجب بحرارة الحب والحنان بقلبها.
في اليوم التالي تفاجأت سميرة بدخول الدكتور إلى غرفة أمها في المشفى وهو يحمل باقة ورد كبيرة وعلبة حلوى فاخرة...
سميرة سالت دموعها وأجهشت بالبكاء. وقالت هذا كثير...
قال الأستاذ، يطلبون في الكلية أستاذا مساعدا من المتفوقين، وقد رشحتك لهذه الوظيفة...
قالت بذاتها ألا يكفيني حلم واحد، حتى يجلب لي هذا الأستاذ حلما ثان أكبر مني؟
مر شهر تقريباً، رن جرس الهاتف في بيت أهل سميرة.
كان الدكتور قال: متى نستطيع أن نزوركم أنا وأمي لقد اشتقنا لكم...
كاد قلب سميرة يسقط من موقعه...
جاء الدكتور وأمه، قال: بداية أود أن أبارك لسميرة بتعيينها أستاذة مساعدة في كلية الأدب الفرنسي، وربما ستكون مساعدتي، وأتمنى أن أكون أنا مساعد لها في المنزل، إذا وافقت أن تكون هي حبيبتي وشريكة عمري
كانت الأم مكتئبة غير راضية عن هذه الطلبة، ويبدو جاءت مرغمة.وبقيت صامتة.
سميرة كانت داخلة حاملة صينية فناجين القهوة، رجفت يدها وكادت تسقط الصينية من يدها...
تزوجا وذهبا في رحلة العمر ...
بقلمي: عبده داود