جاك الرهيب
منذ ألفَي عام جاءني جاك ، حاملاً بيديه سيفاً ، شهره وسلــّـطَه ُ على رأسي ، قائلاً :
"إركع أمامي أيها الجبان. وقبّل يدي وقدمَي ، وإلا ذبـحتك وقتلت أهلك وأولادك".
وبلحظة خوف وضعف مني، انحنيتُ له وركعتُ ، معتقداً أني بذلك أحمي نفسي وعائلتي وأولادي وزوجتي وبيتي.
انحنيت له متمنياً من الله أن يقتلني أو يقتله ، لعلّه بموتي، يعيد إلي بعضا ً من كرامة.
ولكني، وما كنت للتو ّ قد ركعت ، حتى وجدت أن بيتي قد دُمـــِّر ، وأهلي قد ماتوا ، وزوجتي قد اغتصبت ، وأولادي قد تشرّدوا.
غدرني جاك . غدرني ورحل.
ومرت الأيام والسنوات الطويلات.
وكنت أنا قد انتهيت للتو من لملمة أجزائي ، وأعادة تجميعها وإسكانها في بيت صغير وديع ، قد بنيته بيديَ الأثنتين ، وبعرق عمري وأيامي.
فجأة ، وبساعة نحسٍ ولحظة شرٍّ، عاد جاك.
عاد بوجه الماكر واللئيم مع تبدّلٍ قليلٍ في ثيابه.
وعاد حاملا ً بيده سيفاً أكثر تطوراً من ذي قبل.
نظر إليّ، وبنغمةٍ تكشف عن احتقاره لي ، أمرني :
" إركع أمامي أبها الجبان وقبـــّل قدمي، وإلا دمّرت بيتك واغتصبت زوجتك وشرّدت أولادك."
أجبته بصوتي المرتعد خوفاً : " ألم تقل لي هذا الكلام من قبل؟".
قال : " لا. بل أنا تحضّرت وتطوّرت. وبتُّ الآن عندما أعد ، أفي بالوعد. ولكن، لماذا تجادل وأنت لا خيار أمامك سوى الإنصياع أو الموت؟".
ونظراً للسيف الذي في يده ، لم يكن لانصياعي الذليل بديل.
فركعت له مجددا ً معتقدا ً أني بذلك أحمي نفسي وأحمي عائلتي وأولادي وزوجتي وأهلي.
انحنيت له متمنيا ً من الله أن يقتلني لعلّ ، بموتي ، يعيد الله إليّ بعضا ً من كرامة.
ولكنني ، وما كنت للتو ّ قد ركعت ، حتى وجدت أن بيتي قد دُمِـــّر ، وأهلي قد ماتوا ، وزوجتي قد اغتُصِبت ، وأولادي قد تشردوا.
غدرني جاك. غدرني ورحل.
ومرت الأيام والسنوات الطويلات.
أمضيتها أنا في إعادة بناء ما تهدّم ، من حجر وروح ، ومحاولا ً ترميم بيتي ، وإعادة تجميع عائلتي ، واسترداد بعضاً من كرامتي.
وفي العام 1948 ، وبعد أن أنهيت للتو لملمة أجزائي ، وإعادة تجميعها وإسكانها في بيت صغير وديع ، قد بنيته بيديّ الأثنتين ، وعرق عمري وأيامي ، جاءني جاك.
جاء بوجهه الذي لم يتغير ، وبثياب مختلفة كلياً. قميصٌ مرتبٌ أنيقٌ ، وبنطلون يعكس تطوره الحضاري، كما يدّعي.
وكان يحمل بيده ، بدل السيف بندقيّة.
وعلى كتفه تنتصب النجوم، وتنتشي بفخرٍ النياشين. وفي عينيه شرر النيازك.
وكيف لا وهو جاك رهيب ، وجاك قوي ، وجاك متعلم عبقري الذي باستطاعته فعل كل شيء؟
وكل شيء في جاك تغيّر. سلاحه ، ثيابه ، لغته ، شعره .
نعم ، كل شيء إلا ً شيئا ً واحدا ً ، هي نغمة صوته التي تنم عن إحتقاره
الشديد لي.
نظر إليَّ وقال :
" إركع أمامي أيها الجبان وقبـــّل قدمي. وإلا دمّرت بيتك الجديد واغتصبت زوجتك وشرّدت أولادك".
فقلت له بصوتي المرتعب كما العادة : " عفوا ً سيّدي. ولكن ، ألم تقل لي هذا الكلام من قبل؟".
أجابني مستهزئاً : " لا . أنا قد تغيّرت كثيرا ً . وتحضّرت وتطوّرت ، وصنعت نظاماً أسميته ديمقراطية، أي حكم الشعب ، وأريد نشره على هذه البقعة من
الأرض. ولسوف أحميك وأعلمك الحرية والديمقراطية ، شرط أن تركع الآن أمامي. أليس هذا ثمناً قليلاً تدفعه مقابل الأمان؟
ولا تقل أني ظلمتك ، فأنت تعلم أن بعضاً من أهلك قد دفعتُ لهم مالا ً كي
يبيعوا لي أرضهم.
أليست هذه هي الديمقراطية؟ أنا لم أجبرهم على بيع أرضهم. أنا عرضتُ عليهم الدولار ".
ثم رفع فوّهة بندقية أمام وجهي وصاح :
"هيا إركع. إركع أمامي أيها الجبان".
وبلحظة خوف وضعف انحنيتُ له مجددا ً وركعت، معتقدا ً أني بذلك أحمي نفسي وعائلتي وأولادي وزوجتي وبيتي.
انحنيت له متمنيا ً من الله أن يقتلني لعلّه بموتي، يعيد إليّ بعضا ً من كرامة. الله
موقنا ً كل اليقين أنه هو الذي جوّع أهلي ، وهو الذي حرمهم الخبز كي ييبيعوا أراضيهم ليسدّوا منافذ العطش والجوع . وأن هو الذي قتل من لم يقبل أن يبيع.
ولكنني ، وما كنت للتو ّ قد ركعت ، حتى وجدت أن بيتي قد دمـــّر ، وأن أهلي قد ماتوا ، وأن زوجتي قد اغتصبت ن وأن أولادي قد تشردوا.
شرّدني جاك. طردني من أرضي.
وكاد أن يطرد أرضي مني لولا مفتاحاً قد وضعته في جيبي.
مفتاحٌ أبقيته معي يوم سدّوا أبواب بيتي عليّ ، وطردوني أنا المنبوذ.
أنا المنبوذ. وأنا المغدور طردوني.
وأنا الضعيف وقد تركني ربي.
هدّم بيتي . سرق زيتوني، اغتصب امرأتي. طرد أولادي.
سرقهم ورحل، بعد أن غدر بي مرة ومرتين ، وألف ، وألفي مرة. سرقهم جاك.
ومرت الأيام والسنوات الطويلات ، حتى جاء العام 1982 ، وجاء معه جاك مجدداً.
وكان هذه المرة أكثر تطورا ً وقوة وتصميما ً ، وبطشا ً وفتكا ً وهتكا ً ولؤما ً وعهرا ً وتدجيلا وتدميرا ً وتنكيلا ً من أي وقت مضى.
هرعت بسرعة رهيبة أختبىء من بطشه وغطرسته.
وركضتُ في الشارع إلى الجهة الثانية لأبتعد عنه . لأتخلص من ظلمه.
فأني أرتعب خوفا ً من جاك.
هربت لا لأنقذ بيتي، بل لأنقذ نفسي.
وأي بيت لي ، وأنا الذي قررت أن لا أبني أي بيت جديد مخافة أن يسرقه جاك حين يعود.
وهو حتما ًسيعود. وها هو اليوم يعود.
وفجأة ، وأنا أركض في الشارع ، سمعتُ دوي إنفجار رهيب. له صوت أعلى من صوت جاك. ونبرة تدل عن احتقار كبير يكنّه هذا الصوت لـــ "جاك" بالتحديد.
نظرت في مكان الإنفجار فرأيت أشلاء ً تتطاير في السماء من هنا وهناك.
ودماء تجري على الأرض و تسيل.
ولمّا سقطت الأشلاء اقتربت منها مرتجفا ً ، ظانا ً بأني سوف أرى في هذا
المكان ، ضلعا ً مبتورا ً من أخي، أو إصبعا ً من يدِ أبي ، أو قطعة كبد من صديقي ، ممزقة وملطخة ً بالدماء.
حدقت في أحد أعضاء الجسم المبتورة ، وكدت أسقط ُ على الأرض من هول الصدمة.
لا إلى أبي ، ولا إلى أمي ، ولا إلى أختي ، ولا إلى الجار أو الجارة.
بل كان هذا العضو المبتور يعود إلى جاك. إلى بعض من جاك.
إلى جاك الرهيب بأم عينه.
يا إلهي! هل أنا أحلم؟ هل أهلوس؟ لا أصدق ما أراه الآن أمامي.
كنت قد اعتقدت بعد كل هذه السنين بأن جاك لا يـــــُقهر . وأن جاك
يــُـهزم. وأن جاك لا يــــُــــقاوم.
ولكنه ها هو اليوم . ها هو جاك اليوم. أراه أمام عيني ّ، مترنحاً ومهزوماً
وممزقاً.
كحبات الثلج. يتناثر أشلاء
ويملأ عواؤه الأرض والسماء.
أحسست بفرحة عظيمة اقتلعتني من سباتيَ الطويل.
أحسست بأن جبالا ً من نار ومن جليد قد تفجرت في داخلي وحاولت أن تهرب وتتحرّر.
وأحسست وأحسست، وكيف أعبـــّر عمّا أحسست؟
رفعتُ جبيني بعد طول طأطأة ، ورحت أقول في نفسي :
"إصرخ يا جاك . إصرخ. كم أحب سماع صراخك. كم أحب أن أراك تتألم
كم أحب أن أشاهد ملامح الرعب . وقد سقطت أخيرا ً عن وجهي وهبـــّت هارعةً لتستوطن وجهك".
وقفتُ . التــفتّ يمينا ً ثم شمالا ً، محاولا ً رؤية من هو ذاك العملاق الذي قهر أخيراً جاك.
من هو هذا الجبار الذي أسقطه.
نظرت جيداً، وإذ بي أجد طفلا ً صغيرا ً يحمل بيديه حجارة ويقترب من جاك رويدا ً رويدا ً. ثم يصوب الحجارة نحو رأسه
نظرة واحدة في عيني الطفل، تبيّن سحبا ً من نار كان قد أخمد روحها الجليد ، وها هي اليوم من الظلم تتــفجر.
هل هذا هو الصبي الذي قهر جاك؟ أهذا هو؟
لا أعرف. ولم أصدّق .
لكني ، وبعد أن رأيت جاك مشلولا ًعلى الأرض ، اليوم ، و لأول مرة ،
بتُّ أصدّق.
وما سر ذاك الحجر الذي بيديّ الطفل؟ وكيف له مفعول أكثر من مئة قنبلة عربية تأبى أن تُستعمل؟
ومرّت الثواني وجاء المساء
وعدت أنا إلى مسكني. إلى شيء ما يشبه البيت.
بيت كنت قد اتخذت منه مأواً لي ، مع الجرذان ، والديدان ، والصراصير والناموس.
فقيرٌ لا أملك شيئا ً أحمله لزوجتي أو أولادي حين أعود في الليل.
ولكني اليوم أعود وأنا أحمل معي ما هو أعز وأغلى.
أعود حاملاً معي كرامتي. أعود معها لأعرّفها على جدران البيت ،
لعلّ الجدران بها تتجمــّل.
ولعل الجدران تلك ، من أجلها عينيها تتكحــّل.
كرامتي التي رميتها أنا جانبا ً على قاطع طريق منذ ألف سنة.
منذ أول مرة رأيت فيها جاك.
كرامتي التي كانت لي بمثابة صديق تخليت عنه ،ووجدتُ بعد حين ،
وبعد ألفي حين ، بأنه أعز وأغلى ما أملك ، وبأنه كل حياتي.
وها هي الليلة تعود معي ، أو أعود أنا معها ، تصطحبني إلى فراشي الأرضي
. وتغفو معي وتستيقظ ، وتعيش قربي بعد طول غياب
أفاقني الأمل باكرا ً في الصباح التالي. وكانت الشمس أجمل.
وكان الطقس أجمل. والحارة أجمل . وعيون الناس أجمل.
أسرعت لأشتري جريدة فداهمني خبرٌ عن جاك ، الذي كان رهيبا ً.
. خبر مفاده أن جاك قد فر ّ مجروحا ً ولم يمت كما اعتقدنا جميعاً
طرحتُ الجريدة أرضا ً وعدت إلى كوخي.
في البدء شعرت برعشة خفيفة ، بخوف متجذر عمره آلاف السنين .
جاك الرهيب ما زال حياً.
ولكني ، وبفضل هذا المشهد الذي رأيته أمس امام عيني َ ، تمالكت نفسي
ورحت أبحث في كوخي" عن عصا أو سكينا ً أو حجرا ً ، أمسكه في يدي.
وجدت بندقية كانت مهجورة على جانب الطريق.
لربما قد رماها أحد الذين ما زالوا يخافون جاك.
حملتها ومشيت وقلت في نفسي ، كما لم أقل من قبل :
"غداً. غدا يا جاك الذي كان رهيباً.
لا تظن بعد اليوم أني سأركع أمامك لتحافظ أنت على بيتي وأرضي وأهلي.
ولا تظن بعد اليوم أني سأرجو الله قتلي أو قتلك ليعيد إلي بعضا ً من كرامة.
لا، ليس بعد اليوم يا جاك!
كرامتي وكرامة أهلي وبيتي وعائلتي وجيراني وأشجار الزيتون تلك سأحميها أنا.
أحميها ببندقيتي التي لن تسقط.
أحميها بقامتي التي لن تنحني. وبرفشي ومعولي وعلمي.
سأحميها بالرصاصات يا جاك.
رصاصات سوف أغرزها في صدرك سيوفا ً من نار.
إن جهلي قد هزمني سابقا ً وليس أنت.
" وإن تخلفي قد رماني متسكعا ً على جوانب الطرقات وليس علمك
وإني أنتظرك يا جاك.
أنتظرك كما ، في ضيعتنا ، تنتظر الشمسَ ،سنابل القمح ، لتلبس عليها الوشاح الأصفر.
, الأصفر الرهيب ... يا جاك
هل تعرف الأصفر ؟
أعدك يا جاك. أعدك أنك ، في الأيام القليلة المقبلة الآتية ، ستعرف من هو الأصفر.
حملت البندقية ومشيتُ.
وحملت رفشا ً ومعولا ً ، وذهبت إلى الحقل ، وبين شجر التين والزيتون والرمان ، ومعولي ورفشي والبندقية ، شرعتُ أحرث أرضي ،
وأعمر بيتي من جديد.
اليوم اليوم يا جاك يتغيّر الزمان
ستموت أنتَ ، ويعود بيتي أجمل مما كان!
( بقلم ربيع دهام)